كفه أبيض ,, وعينه دامعة ,, ولسانه رطب بذكر الله ,, اذا وقف في محرابه جل له الخشوع ,, واذا تكلم أنصت له الناس ,, يطعم المساكين ,, ويأوي إليه الفقراء ,, فهو شيخ قبيلته إلا أن التواضع بساطه ,, والرفق صاحبه ,, لا يتردد في معروف ,, ولا يبخل بموجود ,,
وفي تلك السنة الخصبة ، حطت الحرب أوزارها وانصرف الناس للمزارع وحصد السنابل ، وهدأت القريتان وعم الأمن الأرجاء ,, وفي سنة الأمن ,, قررت أرملة أن ترحل إلى قرية التقي ، فالخير عنده وفير فهو يملك المزارع الكثيرة ويحب الصدقة ,, لم يكن معها إلا بقرتها وابنتها الجميلة التي تناهز الرابعة عشر من عمرها ,,
حلت المرأة في جوار شيخ القرية ونعمت بالحماية والمعاملة الحسنة فاطمأن قلبها فباتت تسرح وتروح في جواره وتنام قريرة العين في ظل حصنه المنيف ,, أعطاها أرضا ومنحها سكنا بجوار سكنه الفخم ,, ولكن الهدوء له ما ينغصه ,,
والخير يتزعزع أحيانا ,, ومع الأيام تحولت تلك الفتاة الجميلة إلى الشغل الشاغل لشباب أهل القرية ,, وحديثهم في ليالي السمر ,, لقد سحرهم جمالها وكبل أفئدتهم أدبها وحسنها ,,
إنها بضة ناعمة ,, زادها أمن شيخ القرية بهاء ودلالا ,, ولكن من يجرؤ على أن يبوح بحبه وهواه ,, أو ينبس بكلمة ,, إنها ضيفة الشيخ التقي المقدام ,,
ومع مرور الأيام وقع ابن الشيخ المتفضل في حبها ,, ولكن مالحيلة ,, فقوانين القريتين لا تسمح بالارتباط ,, والحروب الفاجعة ما زالت آثارها في الأفئدة ,, والمرأة لم تأت إلا من أجل السنابل والمرعى وعما قريب ستعود ,,
قرر الشاب ركوب الصعاب ,, وكسر الأعراف ,, والفتك بالقوانين ,, والمغامرة في سبيل السحر الحلال ,,
وفي تلك الليلة المظلمة تسلل إلى منزل المرأة الضيفة ليفشي لها بسر حبه ,, وأنه يريد الارتباط الحلال ,, دخل الدار فرحبت به في وجل وخوف ,, وأما الفتاة فتوارت في زاوية المنزل ,, ثم كشف الغطاء عن شوقه ,, وباح بطلبه ,, ولكنه ارتطم بجدار الرفض ,,
عاود الفتى المغرم الطلب ,, وكرر المحاولة ,, ولكن لا فائدة ,, فكل الأبواب مقفلة ,, والأمر مستحيل ,, والأعراف لا تقر بهذا الهوى ,, فاشتعلت نار الحقد في صدره ,, وجن جنونه ,, وثارت روحه بنذر الهلاك ,, بعدها قرر الانتقام ,,
إنه ابن شيخ القبيلة ,, والكل يتمناه ,, وبعد ليال من ثوران بركان الألم ,, تسلل بسكينه المسمومة إلى مربط البقرة السمينة ,, ليعقرها بطريقة شامتة ,, فقطع لسانها من أصله ,, فخرت صريعة في حوض دمائها ,,
أشرق الصباح ,, واستيقظت أم الفتاة على خوار العجل الذي يدور حول أمه ,, والدم يتدفق منها بشكل مفجع ,, فصدمت المرأة ,, ورفعت عقيرتها بالنواح والثبور ,,
لقد خسرت كل ما تملك ,, فلن يكون هناك لبن ,, وستحرم السمن الذي كانت تبيعه على الشيخ ، تجمع أهل القرية عند المرأة الوافدة ,, وقد هالهم منظر البقرة وهي مقتولة بالحقد فلو سرقت لهان الأمر ,, ولكن المجرم أراد أن يحرق قلب صاحبتها ويجعلها فرجة للشامتين ,, خرج الشيخ التقي وقد أزعجه الصياح والعويل ,, فلما أشرف على أهل القرية وهم حول الحدث ,, والبنت واقفة تبكي وأمها مكبة على بقرتها ,, وقف برهة ,, ثم انحدر نحوهم في ذهول ,, وصل إلى الجمع المفجوع فشق صفوفه ,, فاقشعر بدنه من المنظر القبيح ,, وفي لحظة خاطفة دار شريط الذكريات الأليمة في مخيلته ,, وقال له :: إن هذا الفاعل يريد أن يهتك ستر جوارك ويمرغ كرامتك بوحل المهانة ,, إنه فعل الأعداء ,, وإهانة لا تغتفر ياله من حقير ,, ألم تهدأ الحرب ؟؟!! لقد بذلت الكثير من مالي من أجل الأمن بين القريتين ,, فما بالهم يتحرشون بي !!
لقد ضاقت الدنيا في عينيه ,, وتكبلت الكلمات ’’ وفي هذه الأثناء أفاقت المرأة على الصمت المخيف الذي ساد المكان ,, فالأصوات توقفت فرفعت رأسها لتستقصي الخبر ,, فإذا بالشيخ المنزعج ينظر إليها فأقبلت والدموع منهمرة والأطراف مرتجفة ,, وهي تقول ::
يا شيخ يا شيخ ,, فانكبت على الأرض والنحيب يتصاعد ليصبغ المكان بالحزن وهنا تحجرت الدموع في عيني الشيخ ,, ويبست الكلمات وبردت الأطراف,, إنه خليل الليل إذا هجع الناس وصديق الصيام إذا اشتد الحر وصاحب الدعوات المتضرعة فحينها نظر إلى السماء ,, ليصعد قلبه إلى رب الأرباب ,, ومسبب الأسباب وفارج الهم وكاشف الكربات ,, خر الشيخ على ركبتيه ,, متكئا على عصاه ثم أطرق إلى الآرض وكأنه وحيد فيها بعدها نهض في قوة وعنفوان وألقى بالعصا ,, وشمخ بوجهه وصدره إلى السماء ثم رفع يديه حتى سقطت عمامته فقال ::
(( اللهم من هذا فعله فسد حلقه ولا يبيت إلا في المقابر )) ,, ثم ولى وترك العصا والجمع ينظر إليه في ذهول ,,
في هذه اللحظة تجمعت النساء حول المرأة المكلومة وجرت البقرة إلى الوادي لتحتفل بها السباع والنسور ,,
وقبل الغروب والشمس تلملم أشعتها الصفراء لتهرب من الظلام ,’ ’’
خرج أهل القرية كأنهم جراد منتشر ,, فتجمعوا عند المزرعة القريبة ,, فإذا بذلك الشاب النضر ,, يرفس برجله الأرض وقد أنشب أظفاره في حلقه المنتفخ ,, وتفجرت العروق بالدم ,, فلما سمع الشيخ الصياح ترك الوضوء وانطلق مسرعا نحو الجمع الحزين ,, وعندما أشرف من فوق الجدار ,, فإذا بفلذة كبده يتخبط في دمائه الثائرة من حلقه ,,
ثم أسلم روحه لمن أوجدها ,, فصلوا المغرب متأخرين ,,
وبات المسدود حلقه في المقابر
,,